فصل: فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة المزمل:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في فضل السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
فضل السّورة:
حديث أُبي المعلوم ضعفه: «من قرأها دُفع عنه العُسْر في الدنيا والآخرة».
وحديث علي: «يا علي من قرأها أعطاه الله ثواب العلماءِ، وله بكلّ آية قرأها سِتْرٌ من النّار». اهـ.

.فصل في مقصود السورة الكريمة:

.قال البقاعي:

سورة المزمل مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال، وتخفف الأحمال الثقال، ولاسيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد يفي خدمته يفي ظلمات الليال، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في: {يا أيها المزمل}:

السّورة مكِّيّة سوى آية واحدة من آخرها.
وآياتها ثمان عشرة في عدّ الكوفة، وتسعة عشر في البصرة، وعشرون في الباقين.
وكلماتها مائتان وخمس وثمانون.
وحروفها ثمانمائة وستّ وثلاثون.
المختلف فيها ثلاث آيات: المزّمِّل، شيبا، {إِليْكُمْ رسُولا}.
فواصل آياتها على الألف، إِلاّ الآية الأُولى؛ فإِنه باللاّم، والأخيرة؛ فإِنّها (بالرّاءِ).
مجموعها (رال).
سمّيت سورة المزّمل؛ لافتتاحها.

.معظم مقصود السّورة:

خطاب الانبساط مع سيّد المرسلين، والأمرُ بقيام اللّيل، وبيان حُجّة التّوحيد، والأمر بالصّبر على جفاءِ الكفّار، وتهديدُ الكافر بعذاب النار، وتشبيه رسالة المصطفى برسالة موسى، والتخويف بتهويل القيامة، والتسهيل والمسامحة في قيام اللّيل، والحثّ على الصدقة والإِحسان، والأمر بالاستغفار من الذّنوب والعصيان، في قوله: {واسْتغْفِرُواْ اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رّحِيمٌ}.

.الناسخ والمنسوخ:

فيها من المنسوخ ستّ آيات: ثلاث من أوّل السّورة: {إِنّ ربّك يعْلمُ} ن {واهْجُرْهُمْ هجْرا}، وقوله: {وذرْنِي والْمُكذِّبِين} م وقوله: {إِنّ هذه تذْكِرةٌ} ن آية السّيف. اهـ.

.فصل في متشابهات السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
المتشابهات:
قوله تعالى: {فاقْرءُواْ ما تيسّر مِن القرآن}، وبعده: {ما تيسّر مِنْهُ}؛ لأنّ الأوّل في الفرْض، وقيل: في النافلة: خارج الصّلاة، ثم ذكر سبب التخفيف، فقال: {سيكُوْنُ مِنْكُمْ مّرْضى}، ثم أعاد فقال: {ما تيسّر مِنْهُ} والأكثرون على أنّه في صلاة المغرب، والعشاءِ. اهـ.

.فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

.قال ابن عاشور:

سورة المزمل:
ليس لهذه السورة إلاّ اسمُ (سورة المزمل) عُرفت بالإِضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد به حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نُودي به في قوله تعالى: {يا أيها المزمل} (المزمل: 1).
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلاّ قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثُلثي الليل} (المزمل: 20) إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في (الإِتقان): إن استثناء قوله: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اهـ.
يعني وذلك كله بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية فتعيّن أن قوله: {قم اللّيل} (المزمل: 2) أُمِر به في مكة.
والروايات تظاهرت على أن قوله: {إن ربك يعلم أنّك تقوم} إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها، فقالت عائشة: نزل بعد صدر السورة بسنة، ومثله روى الطبري عن ابن عباس، وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة ونزل {إن ربك يعلم} إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول {إن ربك يعلم} إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى: {وءاخرون يقاتلون في سبيل الله} (المزمل: 20) إنْ لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.
وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال: لما أنزل الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل} (المزمل: 1) مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى {وأقيموا الصلاة} (المزمل: 2). اهـ، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة فبعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب (الإِتقان). وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة، وبعض الروايات يقول فيها: إنها كانت تفرِش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فاجتمعوا فخرج مغضبا وخشي أن يُكتب عليهم قيام الليل ونزل {يا أيها المزمل قم الليل إلاّ قليلا} (المزمل: 1، 2) فكُتبت عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم، فأنزل {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} إلى {فتاب عليكم} (المزمل: 20)، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يْبنِ بعائشة إلاّ في المدينة، ولأن قولها: (فخرج مغضبا) يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويُؤيِّده أخبار تثبت قيام الليل في مسجده.
ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الروايات بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى (تفسير الثعلبي) قال: قال النخعي في قوله تعالى: {يا أيها المزمل} كان النبي متزملا بقطيفة عائشة، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي وهو يصلي اه، وإنما بنى النبي بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محالة كما سنبينه عند قوله تعالى: {إِنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل: 5)، وأن قوله: {إن ربك يعلم أنك تقوم..} إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السّورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل.
وأنه ناسخ لوجوب قيام الليل على النبي وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما واصبر على ما يقولون إلى قوله: {ومهلهم قليلا} (المزمل: 10، 11) نزلتا بالمدينة.
واختلف في عدِّ هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح الذي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من (صحيح البخاري) وسيأتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل}.
والأصح أن سبب نزول يا أيها المزمل ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} الآية.
وعدة آيها في عدّ أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عدّ من عداهم عشرون.
أغراضها:
الإِشعار بملاطفة الله تعالى رسوله بندائه بوصفه بصفة تزمله.
واشتملت على الأمر بقيام النبي غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي بتحمل إبلاغ الوحي.
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاءِ الصدقات.
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.
وأمره بالإِعراض عن تكذيب المشركين.
وتكفُّل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.
والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
ووعظهم مما حلّ بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.
وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة.
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبُّره.
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك بتدبرها. اهـ.

.قال سيد قطب:

التعريف بسورة المزمل:
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم له؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا.} الخ. وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل..} إلى آخر السورة. تأخر عاما كاملا. حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه، حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا.
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك- كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله.
وخلاصتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء- قبل البعثة بثلاث سنوات- أي يتطهر ويتعبد- وكان تحنثه- عليه الصلاة والسلام- شهرا من كل سنة- هو شهر رمضان- يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.. وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!
وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
فلما أن أذن، وشاء- سبحانه- أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض، جاء جبريل عليهالسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء.. وكان ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره معه فيما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان، عن عبيد، قال:
«فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قال قلت: ما أقرأ-وفي الروايات: ما أنا بقارئ- قال: فغتني به-أي ضغطني- حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ: قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قال قلت: ماذا أقرأ؟ قال: ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}.. قال: فقرأتها. ثم انتهى فانصرف عني. وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر. فإذا جبريل في صورة رجل، صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه. فما أتقدم وما أتأخر. وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء. قال: فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها-أي ملتصقا بها مائلا إليها- فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا بن عم واثبت. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة».
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثى وهوى إلى الأرض، وانطلق إلى أهله يرجف، يقول: «زملوني. دثروني».. ففعلوا. وظل يرتجف مما به من الروع. وإذا جبريل يناديه: {يا أيها المزمل}.. وقيل: {يا أيها المدثر} والله أعلم أيتهما كانت.
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة. أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعد هناك نوم! وأن هناك تكليفا ثقيلا، وجهادا طويلا، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام!
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قم}.. فقام. وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة الله. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها.. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر.. بل معارك متلاحقة.. مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء، وتظلل مساحات أخرى.. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانتالروم تعد لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى- معركة الضمير- قد انتهت. فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني.. ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك. وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة. في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه. وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة. وفي نصب دائم لا ينقطع.. وفي صبر جميل على هذا كله. وفي قيام الليل. وفي عبادة لربه. وترتيل لقرآنه وتبتل إليه، كما أمره أن يفعل وهو يناديه: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا}.
وهكذا قام محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما. لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد. منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب.. جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء..
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل؛ يتمشى مع جلال التكليف، وجدية الأمر، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق.. هول القول الثقيل الذي أسلفنا، وهول التهديد المروع: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما}.. وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا}.. {فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به وكان وعده مفعولا}.
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه. والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له! فنزل التخفيف، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم.. أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة، وفيها هدوء واستقرار، وقافية تناسب هذا الاستقرار: وهي الميم وقبلها مد الياء: {غفور رحيم}.
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم. وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل، والصلاة، وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة!..
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: {إن الله غفور رحيم}..
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار منالبشرية- البشرية الضالة، ليردها إلى ربها، ويصبر على أذاها، ويجاهد في ضمائرها؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري، ولذاذة تلهي، وراحة ينعم بها الخليون. ونوم يلتذه الفارغون!. اهـ.